23 October 2007

نضالات الفلاحين الدائمة التجدد

عودة إلى النظام البائد في الأرياف المصرية
>> بشير صقر
>> بهانجوف تارسير


مواصلةً هجمتها ضدّ أيّ شكل من أشكال الاحتجاج، حلّت الحكومة المصريّة في منتصف أيلول/سبتمبر جمعية المساعدة القانونية لحقوق الإنسان. كما كانت في نيسان/إبريل الماضي قد قامت بتصفية دار الخدمات النقابيّة والعمّاليّة، في حين شهد البلد أوسع حركة إضرابات عمّالية تضربها منذ عقود. في الأرياف أيضاً، يناضل الفلاّحون المصريّون ضد التدمير الحاصل لنظام الإصلاح الزراعي الذي كان جمال عبد الناصر قد أطلقه منذ 1952
عندما ذهب إرنيستو تشه غيفارا إلى مصر في العام 1965، لماذا أخذه الرئيس جمال عبد الناصر إلى كمشيش، القرية المعشّشة في قلب دلتا النيل في محافظة المنوفيّة؟ ولماذا قصدها سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر بدورهما بعد عامين، وكذلك فعلت بعثة من جمعيّة فيا كامبيسينا [1] في العام 2005؟ فكمشيش تحتلّ موقعاً فريداً - بين كفر المصيلحة، مسقط رأس الرئيس حسني مبارك، في الشمال؛ وميت أبو الكوم، مسقط رأس أنور السادات، في الجنوب الشرقي؛ ودنشواي التي كانت مسرحاً لانتفاضة ضد الاحتلال البريطاني في العام 1906، في الشرق. لكن ما هو أهم هو أنّ هذه القرية ترمز إلى النضالات الفلاحيّة التي قامت في مصر، وتحمل آثار انتصاراتهم الماضية بقدر الصعوبات التي يواجهونها راهناً
ففي أرياف ما قبل ثورة عام 1952 [2]، حيث كان أغلب الفلاحين يشهدون ظروفاً معيشية بائسة وظروف عمل قاسية جداً، كان يوجد إلى جانب زراعة صغيرة "حرّة" لكنْ فقيرة، قطاعٌ زراعي واسع على النموذج الإقطاعي. وكان الفلاّحون يحتلّون في هذا النموذج، وضعية الـ"المرابعين، أنصاف الأقنان". وكانوا يعيشون ضمن "العزب"، وهي أراضٍ شاسعة كانوا يجمّعون فيها مع عائلاتهم داخل أكواخ، ويزرعون أراضي الأسياد التي يديرها متولٍّ عليها. لم يكن هذا العمل يُقاضى بأجر، لكنْ كان يمنحهم جزءاً من الأرض بصفّة مؤقتة، يعملون فيها لحسابهم الخاصّ، على نحوٍ كان يسمح لهم بالكاد بالعيش مع عائلاتهم
كمشيش، التي لم تكن استثناءاً، كانت خاضعة لسيطرة عائلة الفقّي. وفي نهاية الأربعينيات، كانت هذه العائلة تمتلك زهاء 600 هكتار، أي ما يعادل ثلثي أراضي القرية. كما كانت تسيطر على التعاونية الزراعية التي أُسِّست في العام 1936، ومن ثَمَّ على توزيع القروض والبذار والأسمدة على المزارعين الصغار - وكانت هذه السيطرة تسمح لها، بالترافق مع سلطة البلديّة، بممارسة تبادل إجباريّ للحصص الزراعية، ومصادرة الأيدي العاملة لإنجاز الأعمال على أراضيها، وخصّ نفسها بامتيازات في مجال الريّ.
خمسة أعوام من السلم الاجتماعي
خلال تلك الحقبة، ثمّ بصورةٍ أكثر إلحاحاً في نهاية الحرب العالمية الثانية، فرض الإصلاح الزراعي نفسه. وفي 9 أيلول/سبتمبر 1952، أي بعد أقلّ من شهرين على تسلم الضبّاط الأحرار السلطة بقيادة جمال عبد الناصر، أصدر هؤلاء قانوناً يحدّ بصرامة من حجم الملكيّات الزراعية، فكان ذلك بدايةً للإصلاح الزراعي
في كمشيش، تمكّن آل الفقي - على غرار كبار الملاّكين في العديد من القرى الأخرى- من التفلّت من تلك الإجراءات في البداية. وقد لجؤوا حتى العام 1961 إلى العديد من الخدع ليحملوا على الاعتقاد بأنّ ملكيّتهم العقارية الخاصة لا تتخطّى السقف الذي جرى تحديده، في حين كان كلّ من أعضاء العائلة يمتلك أكثر من الضعف. وفي مواجهة هذا الوضع، منذ نهاية العام 1952، انخرط طلاّب شباب وفلاّحون من القرية في نضالٍ أطلقه وقتها صلاح حسين مقلد، الذي كان ينتمي إلى عائلة من الملاّكين المتوسّطين الذين افتقروا. وقد دعوا مجمل الفلاحين إلى استعادة الأراضي التي اشتراها منهم آل الفقي بأسعارٍ منخفضة، مستغلّين إفلاس العديد منهم على أثر أزمة الثلاثينيات
واندلعت خلال العام 1953 مواجهات مسلّحة لا تزال محفورة في ذاكرة الجميع. وقد وُضِعَ صلاح حسين في الإقامة الجبرية في شبين الكوم، مركز المحافظة، في نهاية العام 1953، ثمّ سُجِنَ مدّة أكثر من عام لانتمائه المزعوم إلى جماعة الإخوان المسلمين، قبل أن يُحرَم من حقوقه المدنية حتى نهاية العام 1965. ذلك أنّ الحكومة، بالرغم من مواقفها المبدئيّة "المعادية للإقطاعيّة"، لم تكن تحبّذ تطوّر حركة فلاحيّة مستقلّة
غير أنّه، في تموز/يوليو 1961، اتّخذ النظام الناصري منعطفاً حاسماً مع إصدار "المراسيم الاشتراكية" التي أدّت إلى مصادرة أملاك وأراضي 4 آلاف عائلة، يزيد مجموعها على 50 ألف هكتار. وفي كمشيش، استلزم الأمر ستة أشهر لإحصاء جميع الأراضي المُتنازَع عليها، لكنّ اللّجنة التي عُيّنت لهذه الغاية أقرّت بأنّ المساحة التي تملكها عائلة الفقي تتخطى كثيراً السقف الذي يحدّده القانون. فصُودرت أملاكها بالكامل وأُعيد توزيعها على 200 فلاح صغير من القرية، كما وضِعَ آل الفقي في الإقامة الجبرية في الاسكندريّة. منذ ذلك الحين، أصبحت كمشيش مثالاً للسلام والعدالة التي استتبّت أخيراً في الأرياف، بفضل تطبيق مبادئ الإصلاح الاشتراكية
غير أنّ هذا "السلام الاجتماعي" لن يدوم سوى خمسة أعوام. وعندما عاد صلاح حسين، بعد أن استعاد حقوقه
المدنية، إلى كمشيش في العام 1966، اعتُبر مُحرّضاً شيوعياً خطيراً ووُضع تحت مراقبة الأجهزة الأمنيّة. فكتب في نيسان/أبريل رسالةً إلى الاتّحاد الاشتراكي العربيّ، الحزب الأوحد، للمطالبة بمصادرة قصور تخلّى عنها "الإقطاعيّون"، لكي يأووا فيها المراكز الاجتماعية التي تُعنى بالتعليم والصحّة. وبعد تسعة أيام، في 30 نيسان/أبريل 1966، قُتل خلال "مشاحنة". وسرعان ما اتُّهم شخصان من الفرع الرئيسي لعائلة الفقي باشتراكهما في هذه الجريمة، لكنّ العدالة لن تطول سوى معاونين صغار لهم
لدى تنفيذ إصلاح العام 1961، كان للحكومة أيضاً أهداف سياسيّة: الانتهاء من سلطة "الأرستقراطية العقارية الكبيرة"، حليفة الحكم الملكي السابق، عن طريق تدمير قاعدتها الاجتماعية والاقتصادية. بيد أنه، نظراً إلى المناصب السياسية والإدارية العديدة التي كان لا يزال يشغلها، أو شغلها حديثاً خلال الستينيات، سواء على المستوى المحلّي أم المناطقي، أعضاء هذه الأرستقراطية العقارية أو ورثتهم، يمكن أن نقول بأنّ هدف الحكومة لم يتحقّق إلاّ على المستوى الوطني
من جهة أخرى، ومنذ العام 1961 - العام الذي صدر خلاله القانون الثاني للإصلاح الزراعي و"المراسيم الاشتراكية"-، جرى تصنيف الأراضي التي صُودرت من الملاّكين الكبار إلى فئتيْن مختلفتيْن. الفئة الأولى تتعلّق بالأراضي التي صُودرت من المالكين غير المقيمين عند تطبيق قانونَي الإصلاح الزراعي: هنا يمكن للفلاحين الذين يستثمرون الأرض أن يصبحوا مالكيها بدفع 40 قسطاً سنوياً إلى الحكومة. أما الفئة الثانية فتتعلّق بالأراضي التي جرت مصادرتها خلال الستينيات، في مرحلة تجذّر النظام الناصري: هنا لم يعد بإمكان المالكين استخدامها كما يحلو لهم، مع أنها بقيت ملكاً لهم. فقد وضعت تحت سيطرة الدولة، يديرها قسم الحراسة القضائيّة وهيئة الإصلاح الزراعي التي كانت تؤجّرها إلى مستثمرين صغار وتدفع ثمن إيجارها إلى الملاّكين الكبار
بعد وفاة عبد الناصر في العام 1970، أطلق الرئيس الجديد أنور السادات، بدءاً من أيار/مايو 1971، "حركة تصحيحيّة"، بدأت بعمليّة "إزالة الناصريّة". وهكذا، جرى التصويت في حزيران/يونيو 1974 على قانون يلغي الحراسة القانونيّة المرتبطة بـ"المراسيم الاشتراكية". وقد نصّ هذا القانون بكلّ بساطة على إعادة 60 ألف هكتار إلى أصحابها أو التعويض عليهم بسخاء. ولكن لم تخلُ هذه العمليّة من الصدامات. فالفلاحون الذين يتمتّعون بعقود إيجار دائمة، لقاء مبلغ رسميّ ثابت ومتواضع جداً، قد منعوا المالكين من إخراجهم
وفي كمشيش، توصّلت عائلة الفقي ليس فقط إلى استعادة أراضيها المصادرة، بل حتى المنزل العائلي الذي كان قد جرى فيه تأسيس مدرسة وعدد من المراكز الاجتماعية. كما مُنِعَت السيّدة شاهندة مقلد [3]، أرملة صلاح حسين التي ترأست، منذ حزيران/يونيو 1971، حركة الاحتجاج المناطقيّة، من الإقامة في القرية؛ وتعرّضت بعدها للسجن عدّة مرّات
اليوم، تُحصي كمشيش 40 ألف نسمة، وزوّدت المدينة التي اغتنت بفعل عائدات الهجرة من دول الخليج منذ العام 1990، بثلاث صيدليّات، وبحديقة عامّة مسوّرة بحائطٍ يعتليه سياج حديدي، كان تقدمة من السيّدة سوزان مبارك، زوجة الرئيس. وإلى جانب الحديقة، يقوم رمزٌ للصراع العنيد ضدّ "الإقطاعية": وهو أحد القصور الذي تركته عائلة الفقي. لكنّ العديد من المناضلين الفلاحين، المعزولين، المهدَّدين، المحاصَرين، المسجونين، المعذَّبين، المنبوذين والمقتولين أحياناً، دفعوا غالياً ثمن النضال الذي خاضوه خاصّة من أجل حق تملّك الأرض. وبعد خمسة وخمسين عاماً على أولى الإصلاحات الزراعية، يستمرّ العديد منهم بالعيش في الخوف من أن يتعرّضوا، بين ليلةٍ وضحاها، للطرد من منازلهم
في الواقع، سجّل القانون الزراعي الجديد الذي اعتُمِدَ في العام 1992، تغييراً عميقاً في العلاقات بين المالكين ومستأجري الأراضي الزراعية. لكنّه لم يُطبَّق إلا بدءاً من العام 1997، بعد مرحلةٍ انتقالية دامت خمس سنوات، يُفترَض أن يرتفع خلالها إيجار الأرض تدريجيّاً من 7 إلى 22 ضعفاً لمعدّل الضريبة العقاريّة. بعدها يجري تحديد سعر الإيجار في السوق الحرّة، ومن ثَمَّ يصبح ممكناً طرد المستأجرين العاجزين عن دفع المبلغ المطلوب. من جهةٍ أخرى، لا تعود عقود إيجار الأرض متوارَثة ودائمة، بل يجري تحديد مهلة زمنية لها (أدنى مهلة رسمياً هي سنة واحدة)؛ أما إيجار الأراضي السنويّ، فيسدّد نقداً وكاملاً عند توقيع عقد الإيجار، أي حتى قبل الحصاد. هكذا، وسط غزارة التقارير التي خصّصت لإصلاح القطّاع الزراعي، لم يهتمّ أحد لمصير ضحايا هذه السياسات
هذا القانون، الذي كان يستهدف مليون مستثمر زراعي على الأقلّ (من أصل الثلاثة ملايين الذين تمّ إحصاؤهم في مصر) - أي بتعبيرٍ آخر زهاء 6 ملايين شخص، أو واحد على تسعة من مجمل سكان البلاد-، يعبّر عن تلاقٍ للمصالح بين المالكين والنيوليبراليّين في مصر. فهو يسمح للمالكين بإعادة تقييم إرثهم العقاريّ، عن طريق رفع ملموس للإيجار أو عن طريق إمكانيّة التصرّف بالأراضي على هواهم. ويسمح للنيوليبراليّين بمدح آليّة العمل الحرّة للسوق التي تعود إليها جميع "مزايا" النظام العقاريّ الجديد. فقد قدّمت إعادة تقييم الإيجارات لهم ميّزتيْن كبيرتيْن: من جهة تشجيع البحث عن ربح ٍأكبر تدرّه الأرض المستثمَرة، أي تحديث وتكثيف للإنتاج؛ ومن جهة أخرى، "إزالة" الاستثمارات الصغيرة جداً وغير المربحة واحتمال ضمّها إلى الاستثمارات العصرية
في الوقت نفسه، جرى وصف النظام السابق بشكلٍ كاريكاتوريّ: كان المالكون يتعرّضون لـ" الاستغلال" من قبل المستأجرين "غير الآبهين" الذين كانوا يكتفون بتكديس أرباح الاستثمارات الضخمة، مُستفيدين من أسعار الإيجار الزهيدة، لكي يشتروا في النهاية الأراضي بأسعار متدنّية، بعد أن يكونوا قد حملوا المالكين على الإفلاس
مواجهات محدودة دون تفاقم الأمور
أمّا الواقع فقد اختلف كثيراً عن هذا الوصف: إذ تمارس الاستثمارات الصغيرة زراعة مكثّفة جداً؛ ومردوداتها هي من أفضل المردودات في بلدان الجنوب، ويمكن جني الحصاد ثلاث مرّات سنوياً من قطعة أرض زراعيّة. وإذا كان المالكون الصغار يسعون أولاً للاكتفاء الذاتيّ، من أجل تأمين الغذاء الضروريّ لعائلاتهم، فهم يهتمّون أيضاً بتحقيق أقصى حدّ من الأرباح عن طريق تنويع الإنتاج المخصّص للبيع، لأّنّه يترتّب على ذلك مخاطر، ناجمة خصوصاً عن تقلّبات أسعار السوق. من ناحية أخرى، تمّت عادةً ملاحظة أنّ المستأجرين يستثمرون في العمل وفي المنتجات المخصّصة لتحسين خصوبة الأراضي، ومن ثَمَّ تحسين مردودها، عندما يشعرون بأنهم مضمونون لإيجارات طويلة الأمد. إذ كيف يمكن لمستأجرين قابلين للطرد بعد عام مجرّد التفكير بالقيام بذلك - هذا إن كان بدل الإيجار يترك لهم إمكانيّة فعل ذلك؟
التصويت على قانون العام 1992 قد أدّى إلى هواجس واضطرابات في أوساط الفلاحين المعنيّين؛ ولكن، لمّا كان قسمٌ لا بأس به منهم لم يعلموا به إلاّ بشكل متأخّر، لم تترقّب الصحافة أعمال شغب كبرى إلاّ عند دخوله في حيّز التنفيذ، في تشرين الأول/أكتوبر 1997. ولكن لم تحصل وقتها مثل هذه الأعمال، إلاّ بعض المواجهات التي اندلعت في العديد من القرى - مواجهات محدودة، دون تفاقم الأمور، أتت ردّاً على عمليّات طرد قسريّة للفلاحين الذين كانوا يعارضون رفع الإيجار. وقد أحصى مركز الأرض لحقوق الإنسان، وهو منظمة غير حكومية مقرّها في القاهرة [4]، خلال ثلاثة أعوام (1998-2000)، 119 قتيلاً و846 جريحاً و1409 عملية توقيف مرتبطة بعمليّات طرد المزارعين وبنزاعات أخرى متعلّقة بالوصول إلى الأراضي الزراعيّة
في الواقع، كان عدم توسّع "سلسلة التفجيرات" - والذي عزته الحكومة وقتها إلى عمل "لجان المصالحة" التي أُلِّفت بمبادرة منها- مرتبطاً بمنع قيام أيّ نقابة مستقلّة، وكان مردّه كذلك إلى هيمنة وفعّالية أجهزة المخابرات والمراقبة والقمع. ويمكن أيضاً تفسير ذلك بالتشعّب الكبير للعلاقات الاجتماعية في الأوساط الريفية - خاصّةً وجود سوق تجارية موازية، كانت الإيجارات فيها قبل ذلك مرتفعة جداً، وعلاقات زبائنيّة تربط المالكين بالفلاحين المستأجرين، ووجود مالكين صغار غير مستثمرين، وليس فقط مالكين غير مقيمين في أراضيهم
بيد أنّ قانون العام 1992 الزراعي قد غيّر جوهرياً من حياة الفلاحين. فمنذ ذلك التاريخ، زاد الإيجار العقاري بمعدّل عشرة أضعاف، وبات يبلغ أحياناً ثلث أو نصف العائد السنوي الخام للاستثمار. ويُقدَّر بأنّ ثلاثة أرباع المستثمرين الصغار، الذين كانوا يستأجرون الأراضي في العام 1996، قد عدلوا عن ذلك؛ ويعود السبب، في أغلب الأحيان، إلى تراكم الديون عليهم. وفي الواقع، تُفيد العديد من الشهادات بأنّ الديون تتثاقل على الفلاحين على نحوٍ يمنعهم من دفع الإيجارات الجديدة. وقد جرت عمليّات بيع كبيرة للمجوهرات والماشية، كما تحاول الأسر الحدّ من مصاريفها بكافة الوسائل: إلغاء اللّحم من الغذاء اليومي، سحب ولد من المدرسة كي يعمل... وفي المقابل، تعزّزت فئة الأراضي المستثمرة التي تزيد مساحتها على 10 فدادين [5]، سواء بأعدادها أم بمساحتها، على حساب الاستثمارات الصغيرة. وهكذا، عاد انعدام المساواة في توزيع الأراضي الزراعية، الذي كان قد وُضِعَ له حدّاً بين العامين 1952 و1980، ليستقرّ بين هذا التاريخ والعام 1990، ثم ليتزايد مجدّداً كما في الأيام الخوالي، أي في الأعوام الأخيرة لـالنظام البائد
خلال العقد الماضي، تعرّضت محافظة المنوفية، التي تقع فيها كمشيش، لـ"تفجّرات اجتماعية" عديدة مرتبطة بالأرض. وكان سبب تلك التفجّرات، التي لم تأتِ وسائل الإعلام على ذكرها، ألاعيب العائلات المالكة القديمة. فقد بادرت هذه الأخيرة، اعتماداً
على قانون العام 1992،إلى استعادة أراضٍ كانت سابقاً ملكاً لها أو وضع اليد على أراضٍ أخرى كانت تطمع بها. وأثارت هذه العمليات مواجهات عنيفة جداً في أغلب الأحيان بين الفلاحين، والمأجورين أو قوات الشرطة الذين استُدعوا لنجدة تلك العائلات، وقد استُتبعت هذه المواجهات باعتقالات عديدة، وبحالات سجن تعسّفي - ترافق أحياناً بالتعذيب- وبمحاكمات جائرة ترافقت مع عقوبات ثقيلة. وبحسب مركز الأرض لحقوق الإنسان في القاهرة، نتج عن ذلك، بين العامين 2002 و2004، 171 قتيل و 1624 عمليّة توقيف
الأحداث التي وقعت عام 2005 في سراندو، وهي قرية من 10 آلاف نسمة في شمال غرب الدلتا [6]، تجسّد تلك التحديات. فقد استغلت عائلة صلاح نوّار الضبابية القانونية المحيطة بالـ 2100 هكتار من الأرض التي كانت موجودة بحوزتها قبل العام 1952، لتبادر إلى استعادة أراضيـ"ها" بالقوّة. وبفعل ذلك، شهد السكان المحلّيون، بين 5 كانون الثاني/يناير و15 آذار/مارس، كابوساً حقيقياً، فقد خرّبت الشرطة المنازل، ناشرةً الرعب في قلوب السكان، وأوقفت العديد من الرجال بتهمة حيازة أسلحة وإتلاف الحصاد ومحاولة قتل رجال من قوى الأمن العام. وجرى اعتقال عشرات الأشخاص، من بينهم امرأة تبلغ الأربعين، توفيت في 14 آذار/مارس بعد تعرّضها للتعذيب
وعلى بعد 200 كلم في الشمال الشرقي، شهدت عزبة مرشاق العام الماضي حوادث خطيرة أخرى [7]. فمع أنّ الفلاحين المستفيدين من الإصلاح كانوا قد دفعوا، بين العامين 1964 و2005، الأقساط السنوية المفروضة لامتلاك أراضٍ أُعطيت لهم، فقد رفضت هيئة الإصلاح الزراعي منحهم وثائق مُلْكية. واستفاد المالك السابق من الأمر لفتح ملاحقات قضائيّة بحقّهم، وكلّما كان يربح الدعاوى كان يطردهم، مُستعيداً نحو نصف الـ42 هكتاراً التي أُخِذَت منه. وفي غضون ذلك، وبعد أن تمّكن الفلاحون أخيراً من الحصول على وثائقهم، استأنف الذين طُردوا الأحكام المصدرة بحقّهم. لكن، ولأنّ هذه الاستئنافات لا تُعلّق الحكم الصادر، دخلت 17 عربة شرطة وعشرات من رجال الشرطة، باللّباس المدنيّ، إلى قطعة أرض ليباشروا عمليّة طردٍ أخرى، في 21 أيار/مايو 2006. هكذا حاصر رجال الأمن ستين شخصاً من سكان عزبة مرشاق، كانوا قد سارعوا، برفقة صحافيّين، إلى مساندة الشخص المُقيم فيها، ثمّ فرّقوهم بالعصي والقنابل المُسيلة للدموع، حتى أنّهم رموا نساءً في إحدى السواقي. وجرى اعتقال 25 شخصاً، وجُرح صحافيّ
غير أنّه، وللمرة الأولى، لقيت الحادثة أصداءً في الخارج، بفضل وجود الصحافة في المكان، إضافةً إلى لجنة دعم للفلاحين تأسّست في كمشيش في العام 2005 - وشاركت في حزيران/يونيو من العام نفسه في المنتدى الاجتماعي الأوروبي الذي عُقد في برشلونة. وتحت ضغط فاكسات الاحتجاج التي فاضت بها السفارات المصريّة، أُطلق سريعاً سراح الفلاحين المعتقلين، وجرى العدول عن الملاحقات القانونيّة بحقّهم؛ وجرى نقل ضابط الشرطة الذي قاد هذه العمليّة القمعيّة العنيفة جداً. قرّر حينها الفلاحون عدم إجراء اتفاقيات فرديّة بعد اليوم مع المالكين السابقين، بل مواجهتهم جماعيّاً عن طريق القانون. وبذلك جرى قطع مرحلة أولى في الصراع ضدّ إعادة النظر في مكتسبات الإصلاح الزراعيّ في كمشيش

صحافيّ*
عالم إناسة*

[1] ملاحظة النشرة العربية: وهو اسم حركة الفلاّحين العالمية، راجع
: http://viacampesina.org/
[2] في 23 تموز/يوليو 1952، قامت حركة الضباط الأحرار بقيادة العقيد جمال عبد الناصر بالانقلاب على الملك فاروق المرتبط بالمملكة المتحدة والمعتبر مسؤولاً عن الهزيمة في وجه إسرائيل في عام 1949. وستعلن الجمهورية في حزيران/يونيو 1953
(3) إقرأ سيرتها على موقع لوموند ديبلوماتيك بالفرنسية www.monde-diplomatique.fr/2007/10/SAKR/
[3] إقرأ سيرتها على موقع لوموند ديبلوماتيك بالفرنسية www.monde-diplomatique.fr/2007/10/SAKR/ 15183، ملاحظة النشرة العربية: نشرت دار ميريت في مصر مذكّراتها: "من أوراق شاهندة مقلد"، إعداد وتقديم د. شيرين أبو النجا، القاهرة، 2006
وقد تمّت مصادرة الكتاب وأقام آل الفقي دعوى قضائية لمنعه ولحبس شاهندة مقلد. راجع مجلّة وجهات نظر:http://www.weghatnazar.com/publication/publication_details.asp?id=1653&issue_id=64 والأهالي http://al-ahaly.com/articles/06-11-01/1300-opn02.htm وتضامن http://tadamon.katib.org/node/19 .
كما كتب عنها أحمد فؤاد نجم الأبيات التالية
يا شاهنده وخبرينا يا ام الصوت الحزين
يا ام العيون جناين
يرمح فيها الهجين
وكتب زين العابدين فؤاد
كمشيش بتنفض من ترابها الموت
الدم ناشع، م الجدور، للصوت
الأرض أرض الفلاّحين
ولا حد قدّ الفلاّحين
[4] Land center for human rights : http://www.lchr-eg.org/
[5] الفدان يساوي 0,42 هكتار.
[6] ملاحظة النشرة العربية: سراندو في مركز دمنهور في محافظة البحيرة، راجع رسالة "مرقب حقوق الإنسان" الدولي على موقع إسلام أون لاين http://www.islamonline.net/arabic/news/2005-03/31/article07a.shtml
وتقرير مركز الأرض http://www.hrinfo.net/egypt/lchr/2005/pr0306.shtml
[7] ملاحظة النشرة العربية: عزبة مرشاق بدكنس (محافظة الدقهليّة)، راجع: الكرامة
لوموند ديبلوماتيك اكتوبر 2007

No comments: